ترامب- "أمريكا أولاً" تعني الهيمنة العالمية، لا الانسحاب

المؤلف: جيرار ديب09.22.2025
ترامب- "أمريكا أولاً" تعني الهيمنة العالمية، لا الانسحاب

صرّح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم الثلاثاء الموافق 21 يناير/كانون الثاني، بأنه "سيقوم بدراسة إمكانية فرض عقوبات جديدة على روسيا، وذلك في حال أصرّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين على رفض التفاوض مع أوكرانيا بهدف التوصل إلى اتفاق ينهي هذا الصراع الدائر".

قد يعتري المُراقب شيئًا من الدهشة والتعجب عند استعراض تصريحات الرئيس ترامب قبل وبعد توليه منصبه، خاصة فيما يتعلق بتقديمه "الثناء" المستمر لشخصية الرئيس بوتين، واصفًا إياه بالرجل الذكي، بالإضافة إلى تأكيده الدائم على أن الحرب في أوكرانيا لم يكن لها أن تقع، وأنّه سيعمل جاهدًا على إيجاد حل لها في أقرب وقت ممكن.

إلا أنّ هذه التصريحات المتناقضة لا تتفق على الإطلاق مع ممارساته على أرض الواقع، فهي تحمل في طياتها الكثير من مظاهر التّعالي والاستعلاء، الأمر الذي قد يستفز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ويزيد من تعقيد هذه الأزمة المتفاقمة أصلًا، خاصّةً مع وجود مرسوم رئاسي وقعه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في فترة ولايته الشرعية، يحظر فيه على الجانب الأوكراني إجراء أي مفاوضات مع موسكو، فما الداعي إذًا لنقل الرئيس ترامب المشكلة إلى الجانب الروسي؟

تشعر روسيا بوجود نيّة مبيّتة لدى ترامب لنصب فخ لها، بهدف جرّها إلى الاستسلام التام، لا سيما بعد حديثه المتكرر عن الفعالية الكبيرة لعقوبات بلاده على روسيا، وقدرتها على إنهاك الاقتصاد الروسي بشكل كامل، وإعلانه عن استعداده التام لتقديم الدعم العسكري لكييف بكل ما تحتاجه من أسلحة، على الرغم من أنّ إيلون ماسك، أحد أهم الداعمين لترامب، قد وصف الرئيس زيلينسكي بـ "سارق القرن".

ليس من الصواب الاعتقاد بأن الرئيس ترامب يسعى لإنهاء الحروب في العالم أجمع، فهو ليس برجل سلام على الإطلاق، وهذا ما تؤكده مقولته الشهيرة بأنه "سيفرض السلام بالقوة". ولكن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح: أي نوع من السلام يسعى ترامب لفرضه على العالم؟ وهل يعني استخدامه للقوة هو اللجوء إلى الخيار العسكري واستخدام السلاح؟

قد يكون تحقيق السلام في أوكرانيا مجرد أمنيات تراود الرئيس ترامب، لأنّ الحرب الدائرة هناك متشعبة ومعقدة للغاية. وقد تكون نظريته المسماة "الانفتاحية" تجاه الصين، مجرد "بالونات اختبار" إعلامية لا أكثر، على الرغم من الاتصال الهاتفي الذي جرى بينه وبين الرئيس الصيني شي جين بينغ، والذي تناول فيه الطرفان التعاون المشترك من أجل تحقيق التنمية العالمية المستدامة.

لكن العداوة العميقة بين البلدين مبنية على أساس نظرية "فخ ثيوسيديدس" التي وضعها المؤرخ اليوناني الشهير، والتي تفترض حتمية "الصدام" بين قوتين عظميين: إحداهما صاعدة بقوة "وهي الصين في الوقت الحالي"، والأخرى مهيمنة ومسيطرة "وهي الولايات المتحدة الأمريكية".

لا يمكن تحقيق السلام مع بكين في ظل هذه الظروف، وما الزيادة التي اقترحها ترامب على نسبة الضرائب لتصل إلى 10% على الواردات الصينية إلا دليل قاطع على ذلك. وما يؤكد هذه الحقيقة أيضًا، هو طلب ترامب بالاستحواذ على 50% من أسهم منصة "تيك توك" الصينية الشهيرة، كشرط أساسي للسماح لها بالاستمرار في البث داخل السوق الأمريكي، وذلك بعد صدور قرار قضائي أمريكي بحظرها من البث بشكل كامل.

من الواضح تمامًا أنّ ما يطلبه ترامب ما هو إلا جزء لا يتجزأ من الاستراتيجية الأمريكية المستمرة للهيمنة التامة على النظام العالمي، وذلك عبر استخدام كافة الوسائل المتاحة، وعلى رأسها وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة.

إن الشعار الذي رفعه ترامب تحت عنوان "أمريكا أولًا"، لا يعني إطلاقًا وضع حدود فاصلة للتدخل الأمريكي في الشؤون العالمية، والتركيز فقط على حل القضايا الداخلية الملحة، وعلى رأسها قضية التحول الجنسي التي خصص لها هجومًا لاذعًا ومركزًا في خطاب القسَم.

كما أنّ هذا الشعار لا يعني أيضًا الالتزام التام بتطبيق "عقيدة مونرو"، حيث من الواضح أننا سنشهد في عهده تجسيدًا فعليًا لهذا المبدأ الذي لا يزال ساري المفعول في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1823. هذا المبدأ الذي يفرض على الشق الغربي من الكرة الأرضية عدم السماح إطلاقًا لأي دولة أجنبية بالتدخل في شؤون القارتين الأمريكيتين؛ الشمالية والجنوبية.

لهذا السبب، يجب على إدارة ترامب إيلاء اهتمام أكبر بالوضع في فنزويلا الغنية بمواردها النفطية الهائلة، والعمل بكل جدية على تغيير نظام نيكولاس مادورو ليكون مصيره مشابهًا لمصير الرئيس السوري بشار الأسد، وذلك بسبب انغماسه الكامل في محور الصين وروسيا، وتحديدًا إيران.

كما يسعى ترامب جاهدًا لعرقلة التوسع المطّرد لنفوذ المنافسين الجيوسياسيين لبلاده، وهما روسيا والصين، وذلك من خلال محاولة وضع اليد على جزيرة غرينلاند، التي يراها "موقع المواجهة" الاستراتيجي مع روسيا في منطقة القطب الشمالي. وأيضًا من خلال السيطرة الكاملة على قناة بنما، وذلك بعد أن لاحظ أنّ الشركات الصينية بات لها حضور استثماري كبير من خلال إدارتها لميناءين هامين على هذه القناة، الأمر الذي يفرض صعوبات جمة على حركة الملاحة البحرية الأمريكية.

لم يكتفِ ترامب بشن الهجوم على هذه الدول، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث قام بتوقيع قرار تنفيذي أعاد بموجبه إدراج كوبا ضمن القائمة الأمريكية للدول "الداعمة للإرهاب"، ملغيًا بذلك الإعفاء الذي أصدره سلفه الرئيس جو بايدن قبل نهاية ولايته الرئاسية.

عين ترامب مصوبة على "عقيدة مونرو"، فكيف لا والأزمات الداخلية المتراكمة باتت تشكل عبئًا ثقيلاً على كاهل أي إدارة أمريكية تصل إلى البيت الأبيض. لهذا السبب، قد يشكك البعض في أن تخاذل الديمقراطيين في مواجهة الجمهوريين في الانتخابات الأخيرة، ليس بسبب ضعف شخصية مرشحتهم كامالا هاريس، بل لأنّ المرحلة القادمة تحتاج إلى رجل يتسم بالجرأة المُفرطة في اتخاذ القرارات المصيرية، لدرجة قد تصل إلى "الجنون".

ومن هو الأجدر بتحمل هذه المسؤولية الجسيمة، واتخاذ القرارات الصعبة التي قد تصل إلى حد الصدام المباشر مع أعداء الولايات المتحدة، أفضل من الرئيس ترامب؟ بدءًا بالقرار المتعلق بضرب إيران؟ هذا القرار الذي يبدو أنه قد "نضج" تمامًا لدى مصادر القرار الأمريكية والإسرائيلية على حد سواء، وما يحتاجه الآن هو فقط تحديد ساعة الصفر المناسبة.

لا يمكننا الجزم بأن أمريكا في عهد ترامب ستنسحب من الساحة الدولية وتتخلى عن قراراتها الحاسمة، ويجب ألا يراود المتابع ذلك الوهم بأن واشنطن ستترك للصين أي فرصة سانحة للدخول إلى مركز القيادة العالمية. فما أعلنت عنه وزارة الخارجية الصينية ليس سوى خدعة ومناورة أمريكية، مفادها أنها ستدعم منظمة الصحة العالمية في مهامها، وذلك على خلفية انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة بقرار من الرئيس دونالد ترامب الذي صرّح يوم الاثنين الموافق 20 يناير/كانون الثاني قائلاً: "هذه المنظمة تخدعنا وتضللنا".

لا يرغب ترامب إطلاقًا في سحب بلاده من موقع القيادة العالمية، ولا يسعى لتدمير النظام العالمي الليبرالي الذي هو من صنعها، بل كل ما يصبو إليه هو إزالة كافة التهديدات الخارجية والداخلية التي قد تطيح بالولايات المتحدة وتزعزع استقرارها. فكيف لا، والرجل قد وصل إلى السلطة في فترة زمنية باتت فيها كل من روسيا والصين تشعران بأنهما قد اقتربتا جدًا من إحداث تغيير جذري في النظام العالمي، فهل يعقل أن يقف مكتوف الأيدي ومتفرجًا؟

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة